فصل: تفسير الآية رقم (5)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏68‏)‏‏}‏

استئناف خامس ومناسبةُ موقعه من قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الذي خَلَقَكم من تُراب‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يُخْرِجُكم طِفْلاً‏}‏ إلى ‏{‏ومِنكم مَن يُتَوفَّى من قَبْلُ ولتبلغوا أجَلاً مُسَمى ولعلكم تعقِلُون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 67‏]‏ فإن من أول ما يُرجَى أن يعقلوه هو ذلك التصرف البديع بخلق الحياة في الإِنسان عند تكوينه بعد أن كان جثة لا حياة فيها، وخلق الموت فيه عند انتهاء أجله بعد أن كان حياً متصرفاً بقوته وتدبيره‏.‏

فمعنى ‏{‏يحيي‏}‏ يُوجِد المخلوق حيّا‏.‏ ومعنى ‏{‏يميت‏}‏ أنه يُعدم الحياة عن الذي كان حيّاً، وهذا هو محل العبرة‏.‏ وأما إمكان الإِحياء بعد الإِماتة فمدلول بدلالة قياس التمثيل العقلي وليس هو صريح الآية‏.‏ والمقصود الامتنان بالحياة تبعاً لقوله قبل هذا‏:‏ ‏{‏هُوَ الذي خَلَقَكم مِن تُراب‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يخرجكم طِفلاً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏يُحيِي ويُمِيت‏}‏ المحسن البديعي المسمى الطِّباق‏.‏ وفرع على هذا الخبر إخبار بأنه إذا أراد أمراً من أمور التكوين من إحياء أو إماتة أو غيرهما فإنه يقْدر على فعله دون تردّد ولا معالجة، بل بمجرد تعلق قدرته بالمقدور وذلك التعَلق هو توجيه قدرته للإِيجاد أو الإعدام‏.‏ فالفاء من قوله‏:‏ ‏{‏فَإذَا قَضَى‏}‏ فاء تفريع الإِخبار بما بعدها على الإِخبار بما قبلها‏.‏

وقول‏:‏ ‏{‏كن‏}‏ تمثيل لتعلق القدرة بالمقدور بلا تَأخير ولا عُدَّة ولا معاناة وعلاج بحال من يرد إذن غيره بعمل فلا يزيد على أن يوجه إليه أمراً فإن صدور القول عن القائل أسرع أعمال الإِنسان وأيسر، وقد اختير لتقريب ذلك أخصر فعل وهو ‏{‏كن‏}‏ المركب من حرفين متحرك وساكن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 72‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ‏(‏69‏)‏ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏70‏)‏ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ‏(‏71‏)‏ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

بنيت هذه السورة على إبطال جدل الذين يجادلون في آيات الله جدال التكذيب والتورّك كما تقدم في أول السورة إذ كان من أولها قوله‏:‏ ‏{‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ وتكرر ذلك خمس مرات فيها، فنبه على إبطال جدالهم في مناسبات الإِبطال كلها إذ ابتدئ بإبطاله على الإِجمال عقب الآيات الثلاث من أولها بقوله‏:‏ ‏{‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ ثم بإبطاله بقوله‏:‏ ‏{‏الذين يجادلون في ءايات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 35‏]‏، ثم بقوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الذين يُجادلُون في ءاياتت الله بِغَير سُلطاننٍ أتاهم إن في صُدُورهم إلاَّ كِبْرٌ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 56‏]‏ ثم بقوله‏:‏ ‏{‏ألَمْ تَرَ إلى الَّذِين يجادلون في آياتِ الله أنَّى يُصْرَفُون‏}‏‏.‏

وذلك كله إيماء إلى أن الباعث لهم على المجادلة في آيات الله هو ما اشتمل عليه القرآن من إبطال الشرك فلذلك أعقب كل طريقة من طرائق إبطال شركهم بالإِنحاء على جدالهم في آيات الله، فجملة ‏{‏ألَمْ تَرَ إلى الَّذِين يجادلون في آياتِ الله‏}‏ مستأنفة للتعجيب من حال انصرافهم عن التصديق بعد تلك الدلائل البيّنة‏.‏ والاستفهام مستعمل في التقرير وهو منفي لفظاً، والمراد به‏:‏ التقرير على الإِثبات، كما تَقدم غير مرة، منها عند قوله‏:‏ ‏{‏قال أو لم تؤمن‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 260‏]‏‏.‏

والرؤية عِلمية، وفعلها معلق عن العمل بالاستفهام ب ‏{‏أنى يُصْرَفُونَ‏}‏، و‏(‏أنَّى‏)‏ بمعنى ‏(‏كيف‏)‏، وهي مستعملة في التعجيب مثل قوله‏:‏ ‏{‏أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 47‏]‏ أي أرأيت عجيب انصرافهم عن التصديق بالقرآن بصارف غير بيّن منشَؤه، ولذلك بني فعل ‏{‏يصرفون‏}‏ للنائب لأن سبب صرفهم عن الآيات ليس غير أنفسهم‏.‏ ويجوز أن تكون ‏(‏أنَّى‏)‏ بمعنى ‏(‏أين‏)‏، أي أَلا تعجبُ من أين يصرفهم صارف عن الإِيمان حتى جادلوا في آيات الله مع أن شُبَه انصرافهم عن الإِيمان منتفية بما تكرر من دلائل الآفاق وأنفسِهم وبما شاهدوا من عاقبة الذين جادلوا في آيات الله ممن سبقهم، وهذا كما يقول المتعجب من فعل أحد «أين يُذْهَب بك»‏.‏

وبناء فعل ‏{‏يصرفون‏}‏ للمجهول على هذا الوجه للتعجيب من الصارف الذي يصرفهم وهو غير كائن في مكان غير نفوسهم‏.‏

وأبدل ‏{‏الَّذِينَ كَذَّبُوا بالكتاب‏}‏ من ‏{‏الَّذِينَ يجادلون‏}‏ لأن صلتي الموصولين صادقتان على شيء واحد، فالتكذيب هو ما صْدَقُ الجدال، والكتاب‏:‏ القرآن‏.‏

وعَطْف ‏{‏وَبِمَا أرْسَلنا به رُسُلنا‏}‏ يجوز أن يكون على أصل العطف مقتضياً المغايرة، فيكون المراد‏:‏ وبما أرسلنا به رسلنا من الكتب قبل نزول القرآن، فيكون تكذيبهم ما أُرسلت به الرسل مراداً به تكذيبهم جميعَ الأديان كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما قدروا اللَّه حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏، ويحتمل أنه أريد به التكذيب بالبعث فلعلهم لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بإثبات البعث سألوا عنه أهل الكتاب فأثبتوه فأنكر المشركون جميع الشرائع لذلك‏.‏

ويجوز أن يكون عطفَ مرادف، فائدته التوكيد، والمراد ب ‏{‏رسلنا‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم كقوله‏:‏ ‏{‏كذبت قوم نوح المرسلين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 105‏]‏ يعني الرسول نوحاً على أن في العطف فائدة زائدة على ما في المعطوف عليه وهي أن مما جاء به الرسول مواعظ وإرشاداً كثيراً ليس من القرآن‏.‏

وتفرع على تكذيبهم وعيدهم بما سيلقونه يوم القيامة فقيل فسوف يعلمون، أي سوف يجدون العذاب الذي كانوا يجادلون فيه فيعلمونه‏.‏ وعبر عن وجدانهم العذاب بالعلم به بمناسبة استمرارهم على جهلهم بالبعث وتظاهرهم بعدم فهم ما يقوله الرسول فأنذروا بأن ما جهلوه سيتحققونه يومئذٍ كقول الناس‏:‏ ستعرف منه ما تجهل، قال أبو علي البصير‏:‏

فتذم رأيك في الذين خصصتَهم *** دُوني وتَعْرِف منهم ما تجهل

وحذف مفعول يعلمون‏}‏ لدلالة ‏{‏كَذَّبُوا بالكتاب‏}‏ عليه، أي يتحققون ما كذبوا به‏.‏ والظرف الذي في قوله‏:‏ ‏{‏إذِ الأغلال في أعناقهم‏}‏ متعلق ب ‏{‏يعلمون‏}‏ أي يعلمون في ذلك الزمن‏.‏ وشأن ‏(‏إذْ‏)‏ أن تكون اسماً للزمن الماضي واستعملت هنا للزمن المستقبل بقرينة ‏(‏سوف‏)‏ فهو إما استعمالُ المجاز بعلاقة الإِطلاق، وإما استعارة تبعية للزمن المستقبل المحقق الوقوع تشبيهاً بالزمن الماضي وقد تكرر ذلك‏.‏ ومنه اقترانها ب ‏(‏يوم‏)‏ في نحو قوله‏:‏ ‏{‏يومئذ تحدث أخبارها‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يومئذ يفرح المؤمنون بنصر اللَّه‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 4، 5‏]‏‏.‏ وأول ما يعلمونه حين تكون الأغلال في أعناقهم أنهم يتحققون وقوع البعث‏.‏

والأغلال‏:‏ جمع غُل، بضم العين، وهو حلقة من قِدَ أو حديد تحيط بالعنق تناط بها سلسلة من حديد، أو سَير من قِدّ يُمسك بها المجرم والأسير‏.‏

والسلاسل‏:‏ جمع سِلْسِلة بكسر السينين وهي مجموع حلق غليظة من حديد متصل بعضها ببعض‏.‏

ومن المسائل ما رأيته أن الشيخ ابن عرفة كان يوماً في درسه في التفسير سئل‏:‏ هل تكون هذه الآية سنداً لما يفعله أمراء المغرب أصلحهم الله من وضع الجناة بالأغلال والسلاسل جرياً على حكم القياس على فعل الله في العقوبات كما استنبطوا بعض صور عقاب من عمل قوم لوط من الرجم بالحجارة، أو الإِلقاء من شاهق‏.‏ فأجاب بالمنع لأن وضع الغل في العنق ضرب من التمثيل وإنما يوثق الجاني من يده، قال‏:‏ لأنهم إنما قاسوا على فعل الله في الدنيا ولا يقاس على تصرفه في الآخرة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الإِحراق بالنار، وقوله‏:‏ «إنما يعذب بها رب العزة»

وجملة ‏{‏يُسْحَبُون في الحَمِيم‏}‏ حال من ضمير ‏{‏أعناقهم‏}‏ أو من ضمير ‏{‏يعلمون‏}‏‏.‏ والسَّحْب‏:‏ الجرّ، وهو يجمع بين الإِيلام والإِهانة‏.‏ والحميم‏:‏ أشد الحرّ‏.‏

و ‏(‏ثُمّ‏)‏ عاطفة جملة ‏{‏فِي النَّارِ يُسْجَرون‏}‏ على جملة ‏{‏يُسْحَبون في الحَمِيم‏}‏‏.‏ وشأن ‏(‏ثمّ‏)‏ إذا عطَفَت الجمل أن تكون للتراخي الرتبي وذلك أن احتراقهم بالنار أشد في تعذيبهم من سحبهم على النار، فهو ارتقاء في وصف التعذيب الذي أُجمل بقوله‏:‏ ‏{‏فَسَوفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ والسَّجْرُ بالنار حاصل عقب السحب سواء كان بتراخخٍ أم بدونه‏.‏

والسجر‏:‏ ملْءُ التنور بالوقود لتقوية النار فيه، فإسناد فعل ‏{‏يسجرون‏}‏ إلى ضميرهم إسناد مجازي لأن الذي يسجر هو مكانهم من جهنم، فأريد بإسناد المسجور إليهم المبالغة في تعلق السجر بهم، أو هو استعارة تبعية بتشبيههم بالتنور في استقرار النار بباطنهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يصهر به ما في بطونهم والجلود‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 20‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 76‏]‏

‏{‏ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏73‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ‏(‏74‏)‏ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ‏(‏75‏)‏ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏(‏ثمّ‏)‏ هذه للتراخي الرتبي لا محالة لأن هذا القول يقال لهم قبل دخول النار، بدليل أن مما وقع في آخر القول‏:‏ ‏{‏ادخُلوا أبْوَابَ جَهَنَّم‏}‏، ودخول أبواب جهنم قبل السحْب في حميمها والسَّجْرِ في نارها‏.‏ وهذا القيل ارتقاء في تقريعهم وإعلان خطَل آرائهم بين أهل المحشر وهو أشد على النفس من ألم الجسم، ولأن هذا القول مقدمة لتسليط العذاب عليهم لاشتماله على بيان سبب العذاب من عبادة الأصنام وازدهائهم في الأرض بكفرهم ومَرَحِهم، وهو أيضاً ارتقاء في وصف أحوالهم الدالة على نكالهم إذْ ارتقى من صفة جزائهم على إشراكهم وهو شيء غير مستغرب ترتُّبه على الشرك إلى وصف تحقيرهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها وذلك غريب من أحوالهم وأشدّ دلالة على بطلان إلهية أصنامهم وهو المقصد المهم من القوارع التي سلطت عليهم في هذه السورة‏.‏ فموقع المعطوف ب ‏(‏ثمّ‏)‏ هنا كموقع المعطوف بها في قول أبي نواس‏:‏

قُل إن ساد ثم سادَ أبوه *** قَبله ثم سادَ من قبلُ جدُّه

من حيث كانت سيادة جدّه أرسخت له سيادة أبيه وأعقبت سيادة نفسه، وهذا استعمال موجود بكثرة‏.‏ وصيغ ‏(‏قيلَ‏)‏ بصيغة المضيّ لأنه محقق الوقوع فكأنه وقع ومَضى وكذلك فعل ‏{‏قَالُوا ضَلُّوا‏}‏‏.‏

والقائل لهم‏:‏ ناطق بإذن الله‏.‏ و‏(‏أين‏)‏ للاستفهام عن مكان الشيء المجهول المكان، والاستفهام هنا مستعمل في التنبيه على الغلط والفضيحة في الموقف فإنهم كانوا يزعمون أنهم يعبدون الأصنام ليكونوا شفعاء لهم من غضب الله فلما حق عليهم العذاب فلم يجدوا شفعاء ذكروا بما كانوا يزعمونه فقيل لهم ‏{‏أيْنَ ما كُنْتُم تُشْرِكُون مِن دُوننِ الله‏}‏، فابتدروا بالجواب قبل انتهاء المقالة طمعاً في أن ينفعهم الاعتذار‏.‏ فجملة ‏{‏قَالُوا ضَلُوا عنا‏}‏ معترضة في أثناء القول الذي قيل لهم، ومعنى ‏{‏ضَلُوا‏}‏ غابوا كقوله‏:‏ ‏{‏أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 10‏]‏ أي غُيبنا في التراب، ثم عرض لهم فعلموا أن الأصنام لا تفيدهم‏.‏ فأضربوا عن قولهم‏:‏ ‏{‏ضَلُوا عَنَّا‏}‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏بَلْ لَمْ نَكُن نَدْعُوا مِن قَبْلُ شَيْئَاً‏}‏ أي لم نكن في الدنيا ندعو شيئاً يغني عنا، فنفي دعاء شيء هنا راجع إلى نفي دعاء شيء يُعتدّ به، كما تقول‏:‏ حسبتُ أن فلاناً شيء فإذا هو ليس بشيء، إن كنتَ خبرته فلم تر عنده خيراً‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال‏:‏ «ليسوا بشيء» أي ليسوا بشيء معتدّ به فيما يقصدهم الناس لأجله، وقال عباس بن مرداس‏:‏

وقد كنت في الحرب ذا تدراء *** فلم أعط شيئاً ولم أمنع

وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل‏}‏ في سورة ‏[‏العقود‏:‏ 68‏]‏، إذ ليس المعنى على إنكار أن يكونوا عبدوا شيئاً لمنافاته لقولهم‏:‏ ‏{‏ضَلُّوا عَنَّا‏}‏ المقتضي الاعترافَ الضمني بعبادتهم‏.‏

وفسر كثير من المفسرين قولهم‏:‏ ‏{‏بَل لَّمْ نَكُن ندْعُوا من قَبْلُ شيئاً‏}‏ أنه إنكار لعبادة الأصنام بعد الاعتراف بها لاضطرابهم من الرعب فيكون من نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكون لهم في ذلك الموقف مقالان، وهذا كله قبل أن يحشروا في النار هم وأصنامهم فإنهم يكونون متماثلين حينئذٍ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنكم وما تعبدون من دون اللَّه حصب جهنم‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏كذلك يُضِلُّ الله الكافرين‏}‏ تذييل معترض بين أجزاء القول الذي يقال لهم‏.‏ ومعنى الإِشارة تعجيب من ضلالهم، أي مثل ضلالهم ذلك يُضل الله الكافرين‏.‏ والمراد بالكافرين‏:‏ عموم الكافرين، فليس هذا من الإِظهار في مقام الإِضمار‏.‏ والتشبيه في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك يُضِلُّ الله الكافرين‏}‏ يُفيد تشبيه إضلال جميع الكافرين بإضلاله هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله، فتكون جملة ‏{‏كذلك يُضِلُّ الله الكافرين‏}‏ تذييلاً، أي مثل إضلال الذين يجادلون في آيات الله يُضل الله جميع الكافرين، فيكون إضلال هؤلاء الذين يجادلون مشبهاً به إضلال الكافرين كلهم، والتشبيه كناية عن كون إضلال الذين يجادلون في آيات الله بلغ قوة نوعه بحيث ينظّر به كل ما خفي من أصناف الضلال، وهو كناية عن كون مجادلة هؤلاء في آيات الله أشدُّ الكفر‏.‏

والتشبيه جار على أصله وهو إلحاق ناقص بكامل في وصف ولا يكون من قبيل ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ ولا هو نظير قوله المتقدم ‏{‏كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات اللَّه يجحدون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 63‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم بما كنتم تفرحون‏}‏ تكملة القيل الذي يقال لهم حينَ إِذْ الإِغلالُ في أعناقهم‏.‏ والإِشارة إلى ما هم فيه من العذاب‏.‏ و‏(‏مَا‏)‏ في الموضعين مصدرية، أي ذلكم مسبب على فرحكم ومرحكم اللذين كانا لكم في الدنيا، والأرض‏:‏ مطلقة على الدنيا‏.‏

والفرح‏:‏ المسرة ورضى الإِنسان على أحواله، فهو انفعال نفساني‏.‏ والمرح ما يَظهر على الفارح من الحركات في مشيه ونظره ومعاملته مع الناس وكلامه وتكبره فهو هيئة ظاهرية‏.‏

و ‏{‏بِغَيْرِ الحَقِّ‏}‏ يتنازعه كل من ‏{‏تفرحون‏}‏ و‏{‏تمرحون‏}‏ أي تفرحون بما يسركم من الباطل وتزدهون بالباطل فمن آثار فرحهم بالباطل تطاولُهم على الرسول صلى الله عليه وسلم ومن المرح بالباطل استهزاؤهم بالرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 30، 31‏]‏‏.‏ فالفرح كلما جاء منهياً عنه في القرآن فالمراد به هذا الصنف منه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قال له قومه لا تفرح إن اللَّه لا يحب الفرحين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 76‏]‏ لا كلُّ فَرح، فإن الله امتنّ على المؤمنين بالفرح في قوله‏:‏ ‏{‏ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر اللَّه‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 4، 5‏]‏‏.‏ وبين ‏{‏تفرحون وتمرحون‏}‏ الجناس المحرَّف‏.‏

وجملة ‏{‏ادْخُلوا أبْوَابَ جَهَنَّم‏}‏ يجوز أن تكون استنئافاً بيانياً لأنهم لما سمعوا التقريع والتوبيخ وأيقنوا بانتفاء الشفيع ترقبوا ماذا سيؤمر به في حقهم فقيل لهم ‏{‏أدْخُلوا أبوَابَ جهنَّم‏}‏، ويجوز أن تكون بدل اشتمال من جملة ‏{‏ذلكم بِمَا كنتم تفرحون‏}‏ الخ، فإن مدلول اسم الإِشارة العذابُ المشاهد لهم وهو يشتمل على إدخالهم أبواب جهنم والخلودَ فيها‏.‏

ودخول الأبواب كناية عن الكون في جهنم لأن الأبواب إنما جعلت ليسلك منها إلى البيت ونحوه‏.‏ و‏{‏خالدين‏}‏ حال مقدرة، أي مقدراً خلودكم‏.‏

وفرع عليه ‏{‏فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكبرين‏}‏، والمخصوص بالذم محذوف لأنه يدل عليه ذكر جهنم أي فبئس مثوى المتكبرين جهنمُ، ولم يتصل فعل ‏(‏بئس‏)‏ بتاء التأنيث لأن فاعله في الظاهر هو ‏{‏مثوى‏}‏ لأن العبرة بإسناد فعل الذم والمدح إلى الاسم المذكور بعدهما، وأما اسم المخصوص فهو بمنزلة البيان بعد الإِجمال فهو متبدأ خبره محذوف أو خبرُ مبتدإٍ محذوف، ولذلك عدّ باب نعم وبئس من طرق الإِطناب‏.‏

والمثوى‏:‏ محل الثواء، والثواء‏:‏ الإِقامة الدائمة، وأوثر لفظ ‏{‏مثوى‏}‏ دون ‏(‏مُدخل‏)‏ المناسببِ ل ‏{‏ادخلوا‏}‏ لأن المثوى أدل على الخلود فهو أولى بمساءتِهم‏.‏

والمراد بالمتكبرين‏:‏ المخاطبون ابتداء لأنهم جادلوا في آيات الله عن كِبْر في صدورهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ الذين يجادلون في ءاياتت الله بِغَير سلطانن أتاهم إن في صُدُورهم إلاَّ كِبْرٌ مَا هُم ببالغيه‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 56‏]‏ ولأن تكبرهم من فرحهم‏.‏

وإنما عدل عن ضميرهم إلى الاسم الظاهر وهو ‏{‏المتكبرين‏}‏ للإِشارة إلى أن من أسباب وقوعهم في النار تكبرهم على الرسل‏.‏ وليكون لكل موصوف بالكِبْر حظ من استحقاق العقاب إذا لم يتُب ولم تغلب حسناته على سيئاته إن كان من أهل الإِيمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

قد كان فيما سبق من السورة ما فيه تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على ما تلقَّاه به المشركون من الإِساءة والتصميم على الإِعراض ابتداء من قوله في أول السورة ‏{‏فَلاَ يَغْرُرك تقَلُّبُهم في البلاد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏أوَلَمْ يَسِيُروا في الأرض فَيَنْظُروا كيْفَ كانَ عاقبة الذين كانُوا مِن قَبْلِهم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 21‏]‏، ثم قوله‏:‏ ‏{‏إنَّا لَنَنْصر رُسُلنا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 55‏]‏ الآية، ففرع هنا على جميع ما سبق وما تخلله من تصريح وتعريض أن أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يلاقيه منهم، وهذا كالتكرير لقوله فيما تقدم ‏{‏فَاصْبِر إنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ واستغْفِر لِذَنْبِك‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 55‏]‏‏.‏ وذلك أن نظيره المتقدم ورد بعد الوعد بالنصر في قوله‏:‏ ‏{‏إنَّا لننصُرُ رُسُلنا والذين ءامَنُوا في الحياة الدُّنيا ويوْمَ يَقُوم الأشهاد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏ولقد ءاتينا موسى الهُدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 53‏]‏ الآية، فلما تمّ الكلام على ما أخذ الله به المكذبين من عذاب الدنيا انتقَلَ الكلامُ إلى ذكر ما يلقونه في الآخرة بقوله‏:‏ ‏{‏الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رُسُلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 70، 71‏]‏ الآيات، ثم أعقبه بقوله‏:‏ ‏{‏فاصبر إن وعد الله حق‏}‏ عوْداً إلى بدء إذ الأمر بالصبر مفرّع على ما اقتضاه قوله‏:‏ ‏{‏فَلا يَغْرُرك تقلبهم في البلاد كَذَّبَت قبلهم قومُ نوح‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4، 5‏]‏ الآيات، ثم قوله‏:‏ ‏{‏وأنذرهم يوم الأزفة إذ القلوب لدى الحناجر‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏أوَلَمْ يَسِيروا في الأرضضِ فَيَنظُروا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 21‏]‏ وما بعده، فلما حصل الوعد بالانتصاف من مكذبي النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، أعقب بقوله‏:‏ ‏{‏فَاصْبِر إنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فإمَّا نُرينَّك بعض الذي نعِدُهُم‏}‏ فإن مناسبة الأمر بالصبر عقب ذلك أن يكون تعريضاً بالانتصار له ولذلك فرع على الأمر بالصبر الشرطُ المردَّد بين أن يريه بعض ما توعدهم الله به وبين أن لا يراه، فإن جواب الشرط حاصل على كلتا الحالتين وهو مضمون ‏{‏فإلينا يُرْجعون‏}‏ أي أنهم غير مفلَتين من العقاب، فلا شك أن أحد الترديديْن هو أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم عذابهم في الدنيا‏.‏

ولهذا كان للتأكيد ب ‏(‏إنَّ‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ وعد الله حق‏}‏ موقعُه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين استبطأوا النصر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر اللَّه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏ فنزلوا منزلة المتردد فيه فأُكد وعده بحرف التوكيد‏.‏ والتعبير بالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏يرجعون‏}‏ لإِفادته التجدد فيشعر بأنه رجوع إلى الله في الدنيا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإمَّا نُرِيَنَّكَ‏}‏ شرط، اقترن حرف ‏(‏إنْ‏)‏ الشرطية بحرف ‏(‏ما‏)‏ الزائدة للتأكيد ولذلك لحقت نون التوكيد بفعل الشرط‏.‏ وعطف عليه ‏{‏أو نَتَوفَّيَنَّكَ‏}‏ وهو فعل شرط ثان‏.‏

وجملة ‏{‏فإلينا يُرْجَعُون‏}‏ جواب لفعل الشرط الثاني لأن المعنى على أنه جواب له‏.‏ وأما فعل الشرط الأول فجوابه محذوف دل عليه أول الكلام وهو قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ وعد الله حق‏}‏ وتقديرُ جوابه‏:‏ فإما نرينك بعض الذي نعدهم فذاكَ، أو نتوفينك فإلينا يُرجعون، أي فهم غير مفلَتين مما نعدهم‏.‏

وتقدم نظير هذين الشرطين في سورة يونس إلا أن في سورة ‏[‏يونس‏:‏ 46‏]‏ ‏{‏فإلينا مرجعهم‏}‏ وفي سورة غافر ‏{‏فإلينا يُرْجعون‏}‏، والمخالفة بين الآيتين تفنن، ولأن ما في يونس اقتضى تهديدهم بأن الله شهيد على ما يفعلون، أي على ما يفعله الفريقان من قوله‏:‏ ‏{‏ومنهم من يستمعون إليك‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 42‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ومنهم من ينظر إليك‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 43‏]‏ فكانت الفاصلة حاصلة بقوله‏:‏ ‏{‏على ما يفعلون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 46‏]‏، وأما هنا فالفاصلة معاقبة للشرط فاقتضت صوغ الرجوع بصيغة المضارع المختتم بواو ونون، على أن ‏{‏مرجعهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 46‏]‏ معرف بالإِضافة فهو مشعر بالمرجع المعهود وهو مرجعهم في الآخرة بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏يرجعون‏}‏ المشعر برجوع متجدد كما علمت‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم واقعون في قبضة قدرتنا في الدنيا سواء كان ذلك في حياتك مثل عذاب يوم بدر أو بعد وفاتك مثل قتلهم يوم اليمامة، وأما عذاب الآخرة فذلك مقرر لهم بطريق الأوْلى، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 42‏]‏‏.‏

‏(‏وتقديم المجرور في قوله‏:‏ ‏{‏فإلينا يُرْجعون‏}‏ للرعاية على الفاصلة وللاهتمام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

ذكرنا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يجادل في ءايات الله إلا الذين كفروا‏}‏ في أول هذه السورة ‏[‏4‏]‏ أن من صور مجادلتهم في الآيات إظهارهم عدم الاقتناع بمعجزة القرآن فكانوا يقترحون آيات كما يريدون لقصدهم إفحام الرسول صلى الله عليه وسلم فلما انقضى تفصيل الإِبطال لضلالهم بالأدلة البَيِّنَة والتذكير بالنعمة والإِنذارِ بالترهيب والترغيب وضرببِ الأمثال بأحوال الأمم المكذّبة ثم بوعد الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالنصر وتحقيق الوعد، أعقب ذلك بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ما كان شأنُه إلا شأنَ الرُّسُل من قبله أن لا يأتوا بالآيات من تلقاءِ أنفسهم ولا استجابةً لرغائب معانديهم ولكنها الآيات عند الله يُظهر ما شاء منها بمقتضى إرادته الجارية على وفق علمه وحكمته، وفي ذلك تعريض بالرد على المجادلين في آيات الله، وتنبيه لهم على خطإ ظنهم أن الرُّسل تنتصب لمناقشة المعاندين‏.‏

فالمقصود الأهمّ من هذه الآية هو قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِرَسُوللٍ أنْ يأتِيَ بِآيَةٍ إلاَّ بإذْننِ الله‏}‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أرْسَلْنَا رُسُلاً مِن قَبْلِكَ‏}‏ الخ فهو كمقدمة للمقصود لتأكيد العموم من قوله‏:‏ ‏{‏وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله‏}‏، وهو مع ذلك يفيد بتقديمه معنى مستقلاً من رد مجادلتهم فإنهم كانوا يقولون‏:‏ ‏{‏ما أنزل اللَّه على بشر من شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏ ويقولون‏:‏ ‏{‏لولا أنزل عليه ملك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8‏]‏ فدُمغت مزاعمهم بما هو معلوم بالتواتر من تكرر بعثة الرسل في العصور والأمم الكثيرة‏.‏

وقد بعث الله رسلاً وأنبياء لا يعلم عددهم إلا الله تعالى لأن منهم من أعلم الله بهم نبيه صلى الله عليه وسلم ومنهم من لم يعلمه بهم إذ لا كمال في الإِعلام بمن لم يعلمه بهم، والذين أعلمه بهم منهم من قصّهُ في القرآن، ومنهم من أعلمه بهم بوحي غير القرآن فورد ذكر بعضهم في الآثار الصحيحة بتعيين أو بدون تعيين، ففي الحديث‏:‏ «أن الله بعث نبيئاً اسمه عَبُّود عبداً أسود» وفي الحديث ذكر‏:‏ حَنظلة بن صفوان نَبيُ أهل الرس، وذكرُ خالد بن سِنان نبي عَبس، وفي الحديث‏:‏ «أن نبيئاً لسعَتْه نملة فأحرق قريتها فعوتِبَ في ذلك» ولا يكاد الناس يحصون عددهم لتباعد أزمانهم وتكاثر أممهم وتقاصِي أقطارهم مما لا تحيط به علوم الناس ولا تستطيع إحصاءه أقلام المؤرخين وأخبار القصاصين وقد حصل من العلم ببعضهم وبعض أممهم ما فيه كفاية لتحصيل العبرة في الخير والشر، والترغيب والترهيب‏.‏

وقد جاء في القرآن تسمية خمسةَ عشر رسولاً وهم‏:‏ نوح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وهُود وصالح وشعيب وموسى وهارون وعيسى ويونس ومحمد صلى الله عليه وسلم واثنا عشر نبيئاً وهم‏:‏ داود وسليمان وأيوب وزكرياء ويحيى وإلياس واليسع وإدريس وآدم وذو الكِفل وذو القرنين ولقمان ونبيئة وهي مريم‏.‏

وورد بالإِجمال دون تسمية صاحبُ موسى المسمى في السنة خضراء ونبيُ بني إسرائيل وهو صمويل وتُبَّعٌ‏.‏

وليس المسلمون مطالبين بأن يعلموا غير محمد صلى الله عليه وسلم ولكن الأنبياء الذين ذكروا في القرآن بصريح وصف النبوءة يجب الإِيمان بنبوءتهم لمن قرأ الآيات التي ذكروا فيها وعدتهم خمسة وعشرون بين رسول ونبيء، وقد اشتمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولوطاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 83 86‏]‏ على أسماء ثمانية عشر منهم وذكر أسماء سبعة آخرين في آيات أخرى وقد جمعها من قال‏:‏

حَتْم على كل ذي التكليف معرفة *** بأنبياء على التفصيل قد علموا

في تلك حجتنا منهم ثمانية *** من بعد عشر ويبقى سبعة وهم

إدريس هود شعيب صالح وكذا *** ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا

واعلم أن في كون يوسف رسولاً تردداً بينتُه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات‏}‏ في هذه السورة ‏[‏34‏]‏، وأن في نبوءة الخضر ولقمان وذي القرنين ومريم تردداً‏.‏ واخترتُ إثبات نبوءتهم لأن الله ذكر في بَعْضهم أنه خاطبهم، وذكر في بعضهم أنه أوتى الحِكمة وقد اشتهرتْ في النبوءة، وفي بعضهم أنه كلمتْه الملائكة‏.‏ ولا يجب الإِيمان إلا بوقوع الرسالة والنبوءة على الإِجمال‏.‏

ولا يجب على الأمة الإِيمان بنبوءة رسالة معين إلا محمداً صلى الله عليه وسلم أو من بلغ العلمُ بنبوءته بين المسلمين مبلغ اليقين لتواتره مثل موسى وعيسى وإبراهيم ونوح‏.‏

ولكن من اطلع على ذكر نبوءة نبيء بوصفه ذلك في القرآن صريحاً وجب عليه الإِيمان بما علمه‏.‏ وما ثبت بأخبار الآحاد لا يجب الإِيمان به لأن الاعتقادات لا تجبُ بالظن ولكن ذلك تعْليم لا وجوبُ اعتقاد‏.‏

وتنكير ‏{‏رسلاً‏}‏ مفيد للتعظيم والتكثير، أي أرسلنا رسلاً عددهم كثير وشأنهم عظيم‏.‏ وعطف ‏{‏ومَا كَانَ لِرَسُولٍ‏}‏ الخ بالواو دون الفاء يفيد استقلال هذه الجملة بنفسها لما فيها من معنى عظيم حقيق بأن لا يكون تابعاً لغيره، ويكتفي في الدلالة على ارتباط الجملتين بموقع إحداهما من الأخرى‏.‏

والآية‏:‏ المعجزة، وإذن الله‏:‏ هو أمر التكوين الذي يخلق الله به خارق العادة ليجعله علامة على صدق الرسول‏.‏ ومعنى إتيان الرسول بآية‏:‏ هو تحديه قومه بأن الله سيؤيده بآية يعينّها مثل قول صالح عليه السلام‏:‏ ‏{‏هذه ناقة الله لكم آية‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 73‏]‏ وقول موسى عليه السلام لفرعون‏:‏ ‏{‏أَوَلَو جئتك بشيء مبين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 30‏]‏ الآية‏.‏

وقول عيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيها فيكون طائراً بإذن اللَّه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 49‏]‏ وقول محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏فأتوا بسورة من مثله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏‏.‏

فالباء في ‏{‏بآية باء التعدية لفعل أَنْ يَأْتِيَ‏}‏ وأما الباء في ‏{‏بإذن الله‏}‏ فهي باء السببية دخلت على مستثنىً من أسباب محذوفة في الاستثناء المفرغ، أي ما كان له أن يأتي بآية بسبب من الأسباب إلا بسبب إذن الله تعالى‏.‏

وهذا إبطال لما يتوركون به من المقترحات والتعلات‏.‏

وفُرع عليه قوله‏:‏ ‏{‏فَإذَا جَاءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بِالحَقِّ‏}‏ أي فإذا جاء أمر الله بإظهار الرسول آية ظهر صدق الرسول وكان ذلك قضاء من الله تعالى لرسوله بالحق على مكذبيه، فإذن الله هو أمره التكويني بخلق آية وظهورها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ أمْرُ الله‏}‏ الأمر‏:‏ القضاء والتقدير، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتى أمر اللَّه فلا تستعجلوه‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أو أمر من عنده‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 52‏]‏ وهو الحدث القاهر للناس كما في قول عمر لما قال له أبو قَتادة يومَ حُنين «ما شأن الناس» حين انهزموا وفَرّوا قال عمر‏:‏ «أَمرُ الله»‏.‏ وفي العدول عن‏:‏ إذن الله، إلى ‏{‏أَمْرُ الله‏}‏ تعريض بأن ما سيظهره الله من الإِذن لمحمد صلى الله عليه وسلم هي آيات عقاب لمعانديه، فمنها‏:‏ آية الجوع سبع سنين حتى أكلوا الميتة، وآيةُ السيففِ يوم بدر إذْ استأصل صناديدَ المكذبين من أهل مكة، وآية السيففِ يوم حُنين إذ استأصل صناديدَ أهل الطائف، وآية الأحزاب التي قال الله عنها‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وردَّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى اللَّه المؤمنين القتال وكان اللَّه قوياً عزيزاً وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطؤها وكان الله على كل شيء قديراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 25 27‏]‏‏.‏

وفي إيثار قُضِيَ بِالحَق‏}‏ بالذكر دون غيره من نحو‏:‏ ظهر الحق، أو تبين الصدق، ترشيح لما في قوله‏:‏ ‏{‏أَمْرُ الله‏}‏ من التعريض بأنه أمر انتصاف من المكذبين‏.‏ ولذلك عطف عليه ‏{‏وَخَسِرَ هُنَالِكَ المُبْطِلُونَ‏}‏ أي خسر الذين جَادلوا بالباطل ليُدحضوا به الحق‏.‏

والخسران‏:‏ مستعار لحصول الضرّ لمن أراد النفع، كخسارة التاجر الذي أرادَ الربح فذهب رأس ماله، وقد تقدم معناه غير مرة، منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما ربحت تجارتهم‏}‏ في أوائل سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 16‏]‏‏.‏

و ‏{‏هنالك‏}‏ أصله اسم إشارة إلى المكان، واستعير هنا للإِشارة إلى الزمان المعبر عنه ب ‏(‏إذا‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ أمْرُ الله‏}‏‏.‏

وفي هذه الاستعارة نكتة بديعية وهي الإِيماء إلى أن المبطلين من قريش ستأتيهم الآية في مكان من الأرض وهو مكان بَدر وغيره من مواقع إعمال السيف فيهم فكانت آيات محمد صلى الله عليه وسلم حجة على معانديه أقوى من الآيات السماوية نحو الصواعق أو الريح، وعن الآياتتِ الأرضية نحو الغَرق والخسف لأنها كانت مع مشاركتهم ومداخلتهم حتى يكون انغلابهم أقطع لحجتهم وأخزى لهم نظير آية عَصَا موسى مع عِصيّ السحرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 80‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏79‏)‏ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

انتقال من الامتنان على الناس بما سخر لأجْلهم من نظام العوالم العليا والسفلى، وبما منحهم من الإِيجاد وتطوره وما في ذلك من الألطاف بهم وما أدمج فيه من الاستدلال على انفراده تعالى بالتصرف فكيف ينصرف عن عبادته الذين أشركوا به آلهة أخرى، إلى الامتنان بما سخر لهم من الإِبل لمنافعهم الجمّة خاصّة وعامّة، فالجملة استئناف سادس‏.‏

والقول في افتتاحها كالقول في افتتاح نظائرها السابقة باسم الجلالة أو بضميره‏.‏

والأنعام‏:‏ الإِبل والغنم والمعز والبقر‏.‏ والمراد هنا‏:‏ الإِبلُ خاصة لقوله‏:‏ ‏{‏وَلِتَبْلُغُوا عَلَيهَا حَاجَةً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَيْهَا وعَلَى الفُلْككِ تُحْمَلُونَ‏}‏ وكانت الإِبل غالب مكاسبهم‏.‏

والجَعْل‏:‏ الوضع والتمكين والتهيئة، فيحمل في كل مقام على ما يناسبه وفائدة الامتنان تقريب نفوسهم من التوحيد لأن شأن أهل المروءة الاستحياء من المنعم‏.‏

وأدمج في الامتنان استدلال على دقيق الصنع وبليغ الحكمة كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وَيُرِيكُم ءاياته‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 81‏]‏ أي في ذلك كله‏.‏

واللام في ‏{‏لكم‏}‏ لام التعليل، أي لأجلكم وهو امتنان مُجمل يشمل بالتأمل كل ما في الإِبل لهم من منافع وهم يعلمونها إذا تذكّروها وعدُّوها‏.‏ ثم فصّل ذلك الإِجمال بعضَ التفصيل بذكر المهمّ من النعم التي في الإِبل بقوله‏:‏ ‏{‏لِتَرْكَبُوا منهَا‏}‏ إلى ‏{‏تحملون‏.‏‏}‏ فاللام في ‏{‏لِتَرْكَبُوا منهَا‏}‏ لام كي وهي متعلقة ب ‏{‏جعل‏}‏ أي لركوبكم‏.‏

و ‏(‏مِنْ‏)‏ في الموضعين هنا للتبعيض وهي صفة لمحذوف يدل عليه ‏(‏من‏)‏ أي بعضاً منها، وهو ما أعد للأسفار من الرواحل‏.‏ ويتعلق حرف ‏(‏مِن‏)‏ ب ‏{‏تركبوا‏}‏، وتعلُّقُ ‏(‏مِن‏)‏ التبعيضية بالفعل تعلق ضعيف وهو الذي دعا التفتزاني إلى القول بأن ‏(‏مِن‏)‏ في مثله اسمٌ بمعنى بعضضٍ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا باللَّه‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وأريد بالركوب هنا الركوب للراحة من تَعب الرِّجلين في الحاجة القريبة بقرينة مقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏وَلِتَبلُغُوا عَليهَا حَاجَةً في صُدُورِكُم‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏وَمِنْها تَأكُلُونَ‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏الأنعام،‏}‏ أو عطف على المعنى من جملةِ ‏{‏لِتَرْكَبُوا مِنْهَا‏}‏ لأنها في قوة أن يقال‏:‏ تركبونَ منها، على وجه الاستئناف لبيان الإجمال الذي في ‏{‏جَعَلَ لَكُمُ الأنعام‏}‏، وعلى الاعتبارين فهي في حيّز ما دخلت عليه لاَم كي فمعناها‏:‏ ولتأكلوا منها‏.‏

وجملة ‏{‏ولكم فيها منافع‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وَمِنْهَا تَأكُلُونَ‏}‏، والمعنى أيضاً على اعتبار التعليل كأنه قيل‏:‏ ولتجتنوا منافعها المجعولة لكم وإنما غيّر أسلوب التعليل تفنناً في الكلام وتنشيطاً للسامع لئلا يتكرر حرف التعليل تكراراتتٍ كثيرة‏.‏

والمنافع‏:‏ جمع منفعة، وهي مَفْعلة من النفع، وهي‏:‏ الشيء الذي ينتفع به، أي يستصلح به‏.‏ فالمنافع في هذه الآية أريد بها ما قابل منافع أكل لحومها في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ مثل الانتفاع بأوبارها وألبانها وأثمانها وأعواضِها في الديَات والمهور، وكذلك الانتفاع بجلودها باتخاذها قباباً وغيرَها وبالجلوس عليها، وكذلك الانتفاع بجَمال مرآها في العيون في المسرح والمراح، والمنافع شاملة للركوب الذي في قوله‏:‏ ‏{‏لِتَركبوا مِنهَا‏}‏، فذكر المنافع بعد ‏{‏لِتَركبوا منها‏}‏ تعميم بعد تخصيص كقوله تعالى‏:‏

‏{‏ولي فيها مئارب أخرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 18‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏هي عصاي أتوكؤ عليها‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 18‏]‏، فذُكر هنا الشائع المطروق عندهم ثم ذكر مثيله في الشيوع وهو الأكل منها، ثم عاد إلى عموم المنافع، ثم خص من المنافع الأسفار، فإن اشتداد الحاجة إلى الأنعام فيها تجعل الانتفاع بركوبها للسفر في محل الاهتمام‏.‏ ولما كانت المنافع ليست منحصرة في أجزاء الأنعام جيء في متعلقها بحرف ‏(‏في‏)‏ دون ‏(‏مِن‏)‏ لأن ‏(‏في‏)‏ للظرفية المجازية بقرينة السياق فتشمل كل ما يُعدّ كالشيء المحوي في الأنعام، كقول سَبْرَةَ بن عَمْرو الفقعسي من شعراء الحماسة يذكر ما أخذه من الإبل في ديةِ قريبٍ‏:‏

نحابي بها أكفاءَنا ونُهينُها *** وَنَشْرَب في أثمانها ونُقامر

وأنبأ فعل ‏{‏لِتَبْلغوا‏}‏ أن الحاجة التي في الصدور حاجة في مكان بعيد يطلبها صاحبها‏.‏ والحاجة‏:‏ النية والعزيمة‏.‏

والصدور أطلق على العقول اتباعاً للمتعارف الشائع كما يطلق القلوب على العقول‏.‏

وأعقب الامتنان بالأنعام بالامتنان بالفلك لمناسبة قوله‏:‏ ‏{‏ولِتَبلُغُوا عَلَيها حَاجَةً في صُدُورِكُم‏}‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَعَلَيهَا وَعَلَى الفُلْككِ تُحمَلُونَ‏}‏، وهو انتقال من الامتنان بجعل الأنعام، إلى الامتنان بنعمة الركوب في الفلك في البحار والأنهار فالمقصود هو قوله‏:‏ ‏{‏وعَلَى الفُلْككِ تُحْمَلُونَ‏}‏‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏وعليها‏}‏ فهو تمهيد له وهو اعتراض بالواو الاعتراضية تكريراً للمنّة، على أنه قد يشمل حمل الأثقال على الإِبل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتحمل أثقالكم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 7‏]‏ فيكون إسناد الحمل إلى ضمير الناس تغليباً‏.‏

ووجه الامتنان بالفلك أنه امتنان بما ركَّب الله في الإِنسان من التدبير والذكاء الذي توصل به إلى المخترعات النافعة بحسب مختلف العصور والأجيال، كما تقدم في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس‏}‏ الآيات، وبيّنا هنالك أن العرب كانوا يركبون البحر الأحمر في التجارة ويركبون الأنهار أيضاً قال النابغة يصف الفرات‏:‏

يظل من خوفه الملاح معتصماً *** بالخيزرانة بعد الأيْن والنجَد

والجمع بين السفر بالإِبل والسفر بالفلك جمع لطيف، فإن الإِبل سفائن البر، وقديماً سموها بذلك، قاله الزمخشري في تفسير سورة المؤمنين‏.‏

وإنما قال‏:‏ ‏{‏وَعلَى الفُلْكِ‏}‏ ولم يقل‏:‏ وفي الفلك، كما قال‏:‏ ‏{‏فإذا ركبوا في الفلك‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 65‏]‏ لمزاوجة والمشاكلة مع ‏{‏وعليها،‏}‏ وإنما أعيد حرف ‏(‏على‏)‏ في الفلك لأنها هي المقصودة بالذكر وكان ذكر ‏{‏وعليها‏}‏ كالتوطئة لها فجاءت على مثالها‏.‏

وتقديم المجرورات في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهَا تأكُلُون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَيها وعَلَى الفُلْكِ‏}‏ لرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بما هو المقصود في السياق‏.‏ وتقديم ‏{‏لكم‏}‏ على ‏{‏الأنعام‏}‏ مع أن المفعول أشد اتصالاً بفعله من المجرور لقصد الاهتمام بالمنعَم عليهم‏.‏

وأما تقديم المجرورين في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا منافع‏}‏ فللاهتمام بالمنعم عليهم والمنعم بها لأنه الغرض الأول من قوله‏:‏ ‏{‏الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏لَكُمُ الأنعام‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 79‏]‏ أي الله الذي يريكم آياته‏.‏ وهذا انتقال من متعدد الامتنان بما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 61‏]‏، ‏{‏الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَاراً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 64‏]‏، ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِن تُرَابٍ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 67‏]‏، ‏{‏الله الَّذِي جَعَلَ لَكمُ الأنعام‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 79‏]‏، فإن تلك ذكرت في معرض الامتنان تذكيراً بالشكر، فنبّه هنا على أن في تلك المنن آيات دالة على ما يجب للَّه من الوحدانية والقدرة والحكمة‏.‏

ولذلك كان قوله‏:‏ وَيُرِيكُمْ ءاياته‏}‏ مفيداً مُفاد التذييللِ لما في قوله‏:‏ ‏{‏آياته‏}‏ من العموم لأن الجمع المعرف بالإِضافة من صيغ العموم، أي يريكم آياته في النعم المذكورات وغيرها من كل ما يدلّ على وجوب توحيده وتصديق رسله ونبذِ المكابرة فيما يأتونهم به من آيات صدقهم‏.‏

وقد جيء في جانب إراءة الآيات بالفعل المضارع لدلالته على التجدد لأن الإِنسان كلما انتفع بشيء من النعم علم ما في ذلك من دلالة على وحدانية خالقها وقدرته وحكمته‏.‏ والإِراءة هنا بَصرية، عُبر بها عن العلم بصفات الله إذ كان طريق ذلك العلم هو مشاهدة تلك الأحوال المختلفة فمن تلك المشاهدة ينتقل العقل إلى الاستدلال، وفيه إشارة إلى أن دلالة وجود الخالق ووحدانيته وقدرته برهانية تنتهي إلى اليقين والضرورة‏.‏

وإضافة الآيات إلى ضمير الجلالة لزيادة التنويه بها، والإرشاد إلى إجادة النظر العقلي في دلائلها، وأما كونُها جائية من لدن الله وكونُ إضافتها من الإِضافة إلى ما هو في معنى الفاعل، فذلك أمر مستفاد من إسناد فعل ‏{‏يريكم‏}‏ إلى ضميره تعالى‏.‏ وفرع على إراءة الآيات استفهام إنكاري عليهم من أجل إنكارهم ما دلت عليه تلك الآيات‏.‏

و ‏(‏أيّ‏)‏ اسم استفهام يطلب به تمييز شيء عن مشاركه فيما يضاف إليه ‏(‏أيُّ‏)‏، وهو هنا مستعمل في إنكار أن يكون شيء من آيات الله يمكن أن ينكر دون غيره من الآيات فيفيد أن جميع الآيات صالح للدلالة على وحدانية الله وقدرته لا مساغ لادّعاء خفائه وأنهم لا عذر لهم في عدم الاستفادة من إحدى الآيات‏.‏ والأكثر في استعمال ‏(‏أي‏)‏ إذا أضيفت إلى اسم مؤنثثِ اللفظ أن لا تلحقها هاء التأنيث اكتفاء بتأنيث ما تضاف إليه لأن الغالب في الأسماء التي ليست بصفات أن لا يُفْرَق بين مذكرها ومؤنثها بالهاء نحو حمار فلا يقال للمؤنث حمارة‏.‏ و‏(‏أيّ‏)‏ اسم ويزيد بما فيه من الإِبهام فلا يفسره إلا المضاف إليه فلذلك قال هنا ‏{‏فَأَيَّ ءاياتت الله‏}‏ دون‏:‏ فأيَّة آيات الله، لأن إلحاق علامة التأنيث ب ‏(‏أي‏)‏ في مثل هذا قليل، ومن غير الغالب تأنيث ‏(‏أي‏)‏ في قول الكميت‏:‏

بأي كتاب أم بأيَّةِ سُنة *** تَرى حُبهم عاراً عليَّ وتَحسبُ

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 83‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

تفريع هذا الاستفهام عقب قوله‏:‏ ‏{‏وَيُرِيكُم ءاياته‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 81‏]‏، يقتضي أنه مساوق للتفريع الذي قبله وهو ‏{‏فَأَيَّ ءاياتت الله تُنكِرُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 81‏]‏ فيقتضي أن السيْر المستفهم عنه بالإِنكار على تركه هو سير تحصل فيه آيات ودلائل على وجود الله ووحدانيته وكلا التفريعينْ متصل بقوله‏:‏ ‏{‏وَلِتَبلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً في صُدُورِكُم وعَلَيها وعَلَى الفُلْككِ تُحْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 80‏]‏، فذلك هو مناسبة الانتقال إلى التذكير بعبرة آثار الأمم التي استأصلها الله تعالى لما كذبت رُسله وجحدت آياته ونعمه‏.‏

وحصل بذلك تكرير الإنكار الذي في قوله قبل هذا‏:‏ ‏{‏أوَلَمْ يَسِيروا في الأرْضضِ فَيَنظُرُوا كَيفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانوا مِن قَبْلِهِم كَانُوا هم أَشَدَّ منهم قُوَّةً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 21‏]‏ الآية، فكان ما تقدم انتقالاً عقب آيات الإِنذار والتهديد، وكان هذا انتقالاً عقب آيات الامتنان والاستدلال، وفي كلا الانتقالين تذكير وتهديد ووعيد‏.‏ وهو يشير إلى أنهم إن لم يكونوا ممن تزعهم النعم عن كفران مسديها كشأن أهل النفوس الكريمة فليكونوا ممن يردعهم الخوف من البطش كشأن أهل النفوس اللئيمة فليضعوا أنفسهم حيث يختارون من إحدى الخطتين‏.‏

والقول في قوله‏:‏ ‏{‏أفَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَءَاثَاراً في الأرْضِ‏}‏ مثل القول في نظيره السابق في هذه السورة، وخولف في عطف جملة ‏{‏أفَلَمْ يَسِيرُوا‏}‏ بين هذه الآية فعطفت بالفاء للتفريع لوقوعها بعدما يصلح لأن يفرع عنه إنكار عدم النظر في عاقبة الذين من قبلهم بخلاف نظيرها الذي قبلها فقد وقع بعد إنذارهم بيوم الآزفة‏.‏

وجملة ‏{‏فَمَا أغنى عَنْهم مَا كَانُوا يَكْسِبونَ‏}‏ معترضة والفاء للتفريع على قوله‏:‏ ‏{‏كَانُوا أكْثَرَ مِنْهُم‏}‏ وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا فليذوقوه حميم وغساق‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 57‏]‏ وقول عنترة‏:‏

ولقد نَزَلْتتِ فلا تظنّي غيره *** مني بمنزلة المحَبّ المكرَم

وفائدة هذا الاعتراض التعجيل بإفادة إن كثرتهم وقوتهم وحصونهم وجناتهم لم تغن عنهم من بأس الله شيئاً‏.‏

وجملة ‏{‏فَلَمَّا جَاءَتْهُم رُسُلُهم بالبينات‏}‏ الآية مفرعة على جملة ‏{‏كَانُوا أكْثَرَ مِنْهُم‏}‏ أي كانوا كذلك إلى أن جاءتهم رسل الله إليهم بالبينات فلم يُصدقوهم فرأوا بأسنا‏.‏ وجعلها في «الكشاف» جارية مجرى البيان والتفسير لقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا أغنى عَنْهُم‏}‏، وما سلَكْتُه أنا أحسن ومَوقع الفاء يؤيده‏.‏

ولِما في ‏(‏لَمَّا‏)‏ من معنى التوقيت أفادت معنى أن الله لم يغير ما بهم من النعم العظمى حتى كذبوا رسله‏.‏ وجواب ‏(‏لمّا‏)‏ جملة ‏{‏فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ العِلْمِ‏}‏ وما عطف عليها‏.‏

واعلم أن المفسرين ذهبوا في تفسير هذه الآية طرائق قِدداً ذكر بعضها الطبري عن بعض سلف المفسرين‏.‏ وأنهاها صاحب «الكشاف» إلى ستّ، ومال صاحب «الكَشف» إلى إحداها، وأبو حيان إلى أُخرى ولا حاجة إلى جلب ذلك‏.‏

والطريقة التي يرجح سلوكها هي أن هنا ضمائر عشرة هي ضمائر جمع الغائبين وأن بعضها عائد لا محالة على ‏{‏الَّذِينَ مِن قَبلِهم‏}‏ وأن وجه النظم أن تكون الضمائر متناسقة غير مفككة فلذا يتعين أن تكون عائدة إلى معاد واحد، فالذين ‏(‏فَرحوا بما عندهم من العلم‏)‏ هم ‏(‏الذين جَاءتهم رُسُلهم بالبينات‏)‏، وهم الذين ‏(‏حَاق بهم ما كانوا به يستهزئون‏)‏، والذين رأوا بأس الله، فما بنا إلا أن نُبين معنى ‏{‏فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ العِلمِ‏}‏‏.‏

فالفَرَح هنا مكنّى به عن آثاره وهي الازدهاء كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قال له قومه لا تفرح‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 76‏]‏ أي بما أنت فيه مكنىًّ به هنا عن تمسكهم بما هم عليه، فالمعنى‏:‏ أنهم جادلوا الرسل وكابروا الأدلة وأعرضوا عن النظر‏.‏ وما عندهم من العلم هو معتقداتهم الموروثة عن أَهل الضلالة من أسلافهم‏.‏

قال مجاهد‏:‏ قالوا لرسلهم‏:‏ نحن أعلم منكم لن نُبعث ولن نُعذب اه‏.‏ وإطلاق العلم على اعتقادهم تهكم وجري على حسب معتقدهم وإلا فهو جهل‏.‏ وقال السُدّي‏:‏ فرحوا بما عندهم من العلم بجهلهم يعني فهو من قبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏‏.‏

وحاق بهم‏:‏ أحاط، يقال‏:‏ حاق يحيق حيقا، إذا أحاط، وهو هنا مستعار للشدة التي لا تنفيس بها لأن المحيط بشيء لا يدع له مَفرجاً‏.‏

و ‏{‏مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهزِءُونَ‏}‏ هو الاستئصال والعذاب‏.‏ والمعنى‏:‏ أن رسلهم أوعدوهم بالعذاب فاستهزؤوا بالعذاب، أي بوقوعه وفي ذكر فعل الكون تنبيه على أن الاستهزاء بوعيد الرسل كان شنشنة لهم، وفي الإتيان ب ‏{‏يستهزؤون‏}‏ مُضارعاً إفادة لتكرر استهزائهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 85‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ‏(‏84‏)‏ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا ءَامَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏{‏مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا‏}‏

موقع جملة ‏{‏فَلَمَّا رَأَوا بَأْسَنَا‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَتْهُم رُسُلهم بالبينات‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 83‏]‏ كموقع جملة ‏{‏فَلَمَّا جَاءَتْهُم رُسُلهم من قوله‏:‏ كَانُوا أكْثَرَ مِنْهُم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 82‏]‏ لأن إفادة ‏(‏لمَّا‏)‏ معنى التوقيت يثير معنى توقيتتِ انتهاء ما قبلها، أي دام دُعاء الرسل إياهم ودام تكذيبهم واستهزَاؤهم إلى أن رَأوا بأسنا فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده‏.‏

والبَأْس‏:‏ الشدة في المكروه، وهو جامع لأصناف العذاب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 42، 43‏]‏ فذلك البأس بمعنى البَأساء، ألا ترى إلى قوله‏:‏ تضرعوا وهو هنا يقول‏:‏ فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا‏}‏ فالبأس هنا العذاب الخارق للعادة المنذِرُ بالفناء فإنهم لما رأوه علموا أنه العذاب الذي أُنذروه‏.‏ وفرّع عليه قوله‏:‏ ‏{‏فَلَم يَكُ يَنفَعُهُم إيمانهم لَمَّا رَأَوا بَأْسَنا‏}‏، أي حين شاهدوا العذاب لم ينفعهم الإِيمان لأن الله لا يقبل الإِيمان عند نزول عذابه‏.‏

وعُدل عن أن يقال‏:‏ فلم ينفعهم، إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَلَم يَكُ يَنفَعُهُم‏}‏ لدلالة فعل الكون على أن خبره مقررُ الثبوتتِ لاسمه، فلما أريد نفي ثبوت النفع إياهم بعد فوات وقته اجتلب لذلك نفي فعل الكون الذي خبره ‏{‏ينفعهم‏}‏‏.‏ والمعنى أن الإِيمان بعد رؤية بوارق العذاب لا يفيد صاحبه مثل الإِيمان عند الغَرْغرة ومثل الإِيمان عند طلوع الشمس من مغربها كما جاء في الحديث الصحيح وسيأتي بيان هذا عَقبه‏.‏

‏{‏بَأْسَنَا سُنَّةَ الله التى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ‏}‏

انتصب ‏{‏سُنَّتَ الله‏}‏ على النيابة عن المفعول المطلق لأن ‏{‏سنت‏}‏ اسم مصدر السَّنِّ، وهو آتتٍ بدلاً من فعله، والتقدير‏:‏ سَنَّ الله ذلك سُنَّةً، فالجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال مَن يسأل لماذا لم ينفعهم الإِيمان وقد آمنوا، فالجواب أن ذلك تقدير قدّره الله للأمم السالفة أعلمهم به وشَرَطه عليهم فهي قَديمة في عباده لا ينفع الكافر الإِيمان إلا قبل ظهور البأس ولم يستثن من ذلك إلا قوم يونس قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 98‏]‏‏.‏

وهذا حكم الله في البأس بمعنى العقاب الخارق للعادة والذي هو آية بينة، فأما البأس الذي هو معتاد والذي هو آية خفية مثل عذاب بأس السيف الذي نَصر الله به رسوله يومَ بدر ويومَ فتح مكة، فإنَّ من يؤمن عند رؤيته مثلُ أبي سفيان بن حرب حين رأى جيش الفتح، أو بعد أن ينجو منه مثلَ إيمان قريش يوم الفَتح بعد رفع السيف عنهم، فإيمانه كامل مثل إيمان خالد بن الوليد، وأبي سفيان بن الحَارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد ارتداده‏.‏

ووجه عدم قبول الإِيمان عند حلول عذاب الاستئصال وقبوللِ الإِيمان عند نزول بأس السيف؛ أن عذاب الاستئصال مشارفة للهلاك والخروج من عالم الدنيا فإيقاع الإِيمان عنده لا يحصِّل المقصد من إيجاب الإِيمان وهو أن يكون المؤمنون حزباً وأنصاراً لدينه وأنصاراً لرسله، وماذا يغني إيمان قوم لم يَبق فيهم إلاّ رمق ضعيف من حياة، فإيمانهم حينئذٍ بمنزلة اعتراف أهل الحشر بذنوبهم وليست ساعة عمل، قال تعالى في شأن فرعون‏:‏ ‏{‏إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين ءالآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 90، 91‏]‏، أي فلم يبق وقت لاستدراك عصيانه وإفساده، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏ فأشار قوله‏:‏ أو كسبت في إيمانها خيراً‏}‏ إلى حكمة عدم انتفاع أحد بإيمانه ساعتئذٍ‏.‏ وإنما كان ما حل بقوم يونس حالاً وسيطاً بين ظهور البأس وبين الشعور به عند ظهور علاقاته كما بيّناه في سورة يونس‏.‏

وجملة ‏{‏وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون‏}‏ كالفذلكة لقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُم إيمانهم لَمَّا رَأوا بَأْسَنا‏}‏، وبذلك آذنت بانتهاء الغرض من السورة‏.‏ و‏{‏هنالك‏}‏ اسم إشارة إلى مكاننٍ، استعير للإِشارة إلى الزمان، أي خسروا وقتَ رؤيتهم بأسنا إذْ انقضت حياتهم وسلطانهم وصاروا إلى ترقب عذاب خالد مستقبل‏.‏

والعدول عن ضمير ‏{‏الَّذِينَ كانوا مِن قَبْلِهم كَانُوا هم أشَدَّ منهم قُوَّةً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 21‏]‏ إلى الاسم الظاهر وهو الكافرون‏}‏ إيماءٌ إلى أن سبب خسرانهم هو الكفر بالله وذلك إعذار للمشركين من قريش‏.‏

أسلوب سورة غافِر

أسلوبها أسلوبُ المحاجّة والاستدلال على صدق القرآن وأنه منزل من عند الله، وإبطال ضلالة المكذبين وضرب مثلهم بالأمم المكذبة، وترهيبهم من التمادي في ضلالهم وترغيبهم في التبصر ليهتدوا‏.‏ وافتتحت بالحرفين المقطعين من حروف الهجاء لأن أول أغراضها أن القرآن من عند الله ففي حرفي الهجاء رمزٌ إلى عجزهم عن معارضته بعد أن تحدّاهم، لذلك فلم يفعلوا، كما تقدم في فاتحة سورة البقرة‏.‏ وفي ذلك الافتتاح تشويق إلى تطلّع ما يأتي بعده للاهتمام به‏.‏

وكان في الصفات التي أجريت على اسم مُنزِّل القرآن إيماء إلى أنه لا يشبه كلام البشر لأنه كلام العزيز العليم، وإيماء إلى تيسير إقلاعهم عن الكفر، وترهيب من العقاب على الإِصرار، وذلك كله من براعة الاستهلال‏.‏ ثم تُخلص من الإِيماء والرمز إلى صَريح وصف ضلال المعاندين وتنظيرهم بسابقيهم من الأمم التي استأصلها الله‏.‏

وخص بالذكر أعظم الرسل السالفين وهو موسى مع أمةٍ من أعظم الأمم السالِفة وهم أهل مصر وأطيل ذلك لشدة مماثلة حالهم لحال المشركين من العرب في الاعتزاز بأنفسهم، وفي قلة المؤمنين منهم مثل مؤمن آل فرعون، وتخلل ذلك ثَبات موسى وثَبات مؤمن آل فرعون إيماء إلى التنظير بثبات محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ثم انتقل إلى الاستدلال على الوحدانية وسعة القدرة على إعادة الأموات‏.‏

وختمت بذكر أهل الضلال من الأمم السالفة الذين أَوْبقهم الإِعجابُ برأيهم وثقتهم بجهلهم فصمَّت آذانهم عن سماع حجج الحق، وأعماهم عن النظر في دلائل الكون فحسبوا أنهم على كمال لا ينقصهم ما به حاجة إلى الكمال، فحاق بهم العذاب، وفي هذا رد العجز على الصدر‏.‏ وخوّف الله المشركين من الانزلاق في مهواة الأولين بأن سنة الله في عباده الإِمهال ثم المؤاخذة، فكان ذلك كلمة جامعة للغرض أذنت بانتهاء الكلام فكانت محسن الختام‏.‏

وتخلل في ذلك كلّه من المستطردات والانتقالات بذكر ثناء الملأ الأعلى على المؤمنين وثنائهم على الكافرين، وذكر ما هم صائرون إليه من العذاب والندامة، وتمثيل الفارق بين المؤمنين والكافرين، وتشويه حال الكافرين في الآخرة، وتثبيت المؤمنين على إيمانهم وأن الله ناصر رسوله والمؤمنين في الدنيا والآخرة، وأمْرَهم بالصبر والتوكل، وأن شأن الرسول صلى الله عليه وسلم كشأن الرسل من قبله في لُقيان التكذيب وفي أنه يأتي بالآيات التي أجراها الله على يديه دون مقترحات المعاندين‏.‏

سورة فصلت

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏‏}‏

القول في الحروف الواقعة فاتحةَ هذه السورة كالقول في ‏{‏ألام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 4‏]‏

‏{‏تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏2‏)‏ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

افتتح الكلام باسم نكرة لما في التنكير من التعظيم‏.‏ والوجه أن يكون ‏{‏تَنزِيلٌ‏}‏ مبتدأ سَوَّغ الابتداء به ما في التنكير من معنى التعظيم فكانت بذلك كالموصوفة وقوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الرحمنن الرَّحِيم‏}‏ خبر عنه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كتاب بَدل من تنزيل فحصل من المعنى‏:‏ أن التنزيل من الله كتاب، وأن صفته فُصّلت آياته، موسوماً بكونه قرآناً عربياً، فحصل من هذا الأسلوب أن القرآن منزَّل من الرحمان الرحيم مفصلاً عربياً‏.‏ ولك أن تجعل قوله‏:‏ مِنَ الرحمنن الرَّحِيم‏}‏ في موضع الصفة للمبتدأ وتجعل قوله‏:‏ ‏{‏كتاب‏}‏ خبرَ المبتدأ، وعلى كلا التقديرين هو أسلوب فخم وقد مَضى مثله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏آلمص كتاب أنزل إليك‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏

والمراد‏:‏ أنه منزَّل، فالمصدر بمعنى المفعول كقوله‏:‏ ‏{‏وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 192، 193‏]‏ وهو مبالغة في كونه فَعَل الله تنزيله، تحقيقاً لكونه موحى به وليس منقولاً من صحف الأولين‏.‏ وتنكير ‏{‏تنزيل وكتاب لإِفادة التعظيم‏.‏

والكتاب‏:‏ اسم لمجموع حروف دالة على ألفاظ مفيدة وسمي القرآن كتاباً لأن الله أوحى بألفاظه وأمر رسوله بأن يكتب ما أُوحي إليه، ولذلك اتخذ الرسول كتَّاباً يكتبون له كل ما ينزل عليه من القرآن‏.‏ وإيثار الصفتين الرحمنن الرَّحِيمِ‏}‏ على غيرهما من الصفات العلية للإِيماء إلى أن هذا التنزيل رحمة من الله بعباده ليخرجهم من الظلمات إلى النور كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 157‏]‏ وقولِه تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 51‏]‏‏.‏

والجمع بين صفتي ‏{‏الرحمنن الرَّحِيم‏}‏ للإيماء إلى أن الرحمة صفة ذاتيَّة لله تعالى، وأن متعلقها منتشر في المخلوقات كما تقدم في أول سورة الفاتحة والبسملة‏.‏ وفي ذلك إيماء إلى استحماق الذين أعرضوا عن الاهتداء بهذا الكتاب بأنهم أعرضوا عن رحمة، وأن الذين اهتدوا به هم أهل المرحمة لقوله بعد ذلك‏:‏ ‏{‏قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏فُصِّلَتْ ءاياته‏}‏ بُينت، والتفصيل‏:‏ التبيين والإخلاء من الالتباس‏.‏ والمراد‏:‏ أن آيات القرآن واضحة الأغراض لا تلتبس إلا على مكابر في دلالة كل آية على المقصود منها، وفي مواقعها وتمييز بعضها عن بعض في المعنى باختلاف فنون المعاني التي تشتمل عليها، وقد تقدم في طالعة سورة هود‏.‏

ومن كمال تفصيله أنه كان بلغة كثيرة المعاني، واسعة الأفنان، فصيحة الألفاظ، فكانت سالمة من التباس الدلالة، وانغلاق الألفاظ، مع وفرة المعاني غير المتنافية في قلة التراكيب، فكان وصفه بأنه عربي من مكملات الإِخبار عنه بالتفصيل‏.‏ وقد تكرر التنويه بالقرآن من هذه الجهة كقوله‏:‏ ‏{‏بلسان عربي مبين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 195‏]‏ ولهذا فرع عليه ذم الذين أعرضوا عنه بقوله هنا ‏{‏فَأعْرَضَ أكْثَرُهُم فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون‏}‏ وقوله هنالك‏:‏

‏{‏كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 200، 201‏]‏‏.‏

والقرآن‏:‏ الكلام المقروء المتلوّ‏.‏ وكونه قُرآناً من صفات كماله، وهو أنه سهْل الحفظ، سهْل التلاوة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد يسرنا القرآن للذكر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 22‏]‏ ولذلك كان شأن الرسول صلى الله عليه وسلم حفظ القرآن عن ظهر قلب، وكان شأن المسلمين الاقتداء به في ذلك على حسب الهمم والمَكْنَات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى تفضيل المؤمنين بما عندهم من القرآن‏.‏ وكان يوم أحد يقدم في لحد شهدائه مَن كان أكثرهم أخذاً للقرآن تنبيهاً على فضل حفظ القرآن زيادة على فضل تلك الشهادة‏.‏

وانتصب ‏{‏قرآناً على النعت المقطوع للاختصاص بالمدح وإلا لكان مرفوعاً على أنه خبر ثالث أو صفة للخبر الثاني، فقوله‏:‏ قرآناً‏}‏ مقصود بالذكر للإشارة إلى هذه الخصوصية التي اختص بها من بين سائر الكتب الدينية، ولولا ذلك لقال‏:‏ كتاب فصّلت آياته عربي كما قال في سورة الشعراء ‏(‏195‏)‏ ‏{‏بلسان عربي مبين‏}‏ ولك أن تجعله منصوباً على الحال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِقَوْممٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ صفة ل ‏{‏قرآناً‏}‏ ظرفٌ مستقر، أي كائناً لقوم يعلمون باعتبار ما أفاده قوله‏:‏ ‏{‏قُرءَاناً عَرِبيَّاً‏}‏ من معنى وضوح الدلالة وسطوع الحجة، أو يتعلق ‏{‏لِقَوْممٍ يَعْلَمُون‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏تنزيل أو بقوله‏:‏ فُصِّلَتْ ءاياته‏}‏ على معنى أن فوائد تنزيله وتفصيله لقوم يعلمون دون غيرهم فكأنه لم يُنزل إلا لهم، أي فلا بدع إذا أعرض عن فهمه المعاندون فإنهم قوم لا يعلمون، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 101‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما يعقلها إلا العالمون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 43‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 49‏]‏‏.‏

والبشير‏:‏ اسم للمبشر وهو المخبر بخبر يسر المخبَر‏.‏ والنذير‏:‏ المخبر بأمر مَخُوف، شبه القرآن بالبشير فيما اشتمل عليه من الآيات المبشرة للمؤمنين الصالحين، وبالنذير فيما فيه من الوعيد للكافرين وأهل المعاصي، فالكلام تشبيه بليغ‏.‏ وليس‏:‏ ‏{‏بشيراً‏}‏ أو ‏{‏نذيراً‏}‏ اسمي فاعل لأنه لو أريد ذلك لقيل‏:‏ مُبشراً ومُنذراً‏.‏

والجمع بين‏:‏ ‏{‏بشيراً‏}‏ و‏{‏نَذِيراً‏}‏ من قبيل محسن الطِّبَاق‏.‏ وانتصب ‏{‏بشيراً‏}‏ على أنه حال ثانية من ‏{‏كتاب‏}‏ أو صفة ل ‏{‏قرآناً،‏}‏ وصفة الحال في معنى الحال، فالأوْلى كونه حالاً ثانية‏.‏

وجيء بقوله‏:‏ ‏{‏نذيراً‏}‏ معطوفاً بالواو للتنبيه على اختلاف موقع كل من الحالين فهو بشير لقوم وهم الذين اتبعوه ونذير لآخرين، وهم المعرضون عنه، وليس هو جامعاً بين البشارة والنذارة لطائفة واحدة فالواو هنا كالواو في قوله‏:‏ ‏{‏ثيبات وأبكارا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وتفريع ‏{‏فأعْرَضَ أكْثَرُهُم‏}‏ على ما ذكر من صفات القرآن‏.‏ وضمير ‏{‏أكثرهم‏}‏ عائد إلى معلوم من المقام وهم المشركون كما هي عادة القرآن في غير موضع‏.‏ والمعنى‏:‏ فأعرض أكثر هؤلاء عما في القرآن من الهدى فلم يهتدوا، ومن البشارة فلم يُعنوا بها، ومن النذارة فلم يحذروها، فكانوا في أشد الحماقة، إذ لم يعنوا بخَير، ولا حَذِرُوا الشر، فلم يأخذوا بالحيطة لأنفسهم وليس عائداً ل ‏{‏قوم يعلمون‏}‏ لأن الذين يعلمون لا يُعرض أحد منهم‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فَهُمْ لا يَسْمَعُون‏}‏ للتفريع على الإِعراض، أي فهم لا يُلقون أسماعهم للقرآن فضلاً عن تدبره، وهذا إجمال لإِعراضهم‏.‏ وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في ‏{‏فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ‏}‏ دون أن يقول‏:‏ فلا يسمعون لإِفادة تقوّي الحكم وتأكيده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

عطف ‏{‏وقالوا‏}‏ على ‏{‏فأعرض‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 4‏]‏ أو حالٌ من ‏{‏أكثرهم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 4‏]‏ أو عطف على ‏{‏لا يَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 4‏]‏، أو حال من ضميره، والمعنى‏:‏ أنهم أعرضوا مصرحين بقلة الاكتراث وبالانتصاب للجفاء والعداء‏.‏ وهذا تفصيل للإعراض عما وُصف به القرآن من الصفات التي شأنها أن تقربهم إلى تلقيه لا أن يَبعدوا ويعرضوا وقد جاء بالتفصيل بأقوالهم التي حرمتهم من الانتفاع بالقرآن واحداً واحداً كما ستعلمه‏.‏

والمراد بالقلوب‏:‏ العقول، حكي بمصطلح كلامهم قولهم إذ يطلقون القلب على العقل‏.‏

والأكنة‏:‏ جمع كنان مثل‏:‏ غطاء وأغطية وزناً ومعنى، أثبتت لقلوبهم أغطية على طريقة التخييل، وشُبهت القلوب بالأشياء المغطّاة على طريقة الاستعارة المكنية‏.‏ ووجه الشبه حيلولة وصول الدعوة إلى عقولهم كما يحول الغطاء والغلاف دون تناول ما تحته‏.‏ ومَا يدعوهم إليه يعم كل ما دعاهم إليه من المدلولات وأدلتها، ومنها دلالة معجزة القرآن وما تتضمنه من دلالة أمية الرسول صلى الله عليه وسلم من نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وجعلت القلوب في أكنة لإِفادة حرف ‏{‏في‏}‏ معنى إحاطة الظرف بالمظروف‏.‏ وكذلك جعل الوَقر في القلوب لإِفادة تغلغله في إدراكهم‏.‏

و ‏(‏مِن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مِمَّا تَدْعُونَا إلَيْهِ‏}‏ بمعنى ‏(‏عن‏)‏ مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للقاسية قلوبهم من ذكر اللَّه‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 22‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قد كنا في غفلة من هذا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 97‏]‏، والمعنى‏:‏ قلوبنا في أكنة فهي بعيدة عما تدعونا إليه لا ينفذ إليها‏.‏

والوَقر بفتح الواو‏:‏ ثقل السمع وهو الصمم، وكأنَّ اللغة أخذته من الوِقر بكسر الواو، وهو الحِمل لأنه يثقل الدَّابة عن التحرك، فأطلقوه على عدم تحرك السمع عند قرع الصوت المسموع، وشاع ذلك حتى ساوى الحقيقة ففتحوا له الواو تفرقة بين الحقيقة والمجاز، كما فرقوا بين العَضّ الحقيقي وعظِّ الدهر بأن صيروا ضادهُ ظاء‏.‏ وقد تقدم ذكر الأكنة والوقر في قوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً‏}‏ في الأنعام ‏(‏25‏)‏ وفي سورة الإِسراء ‏(‏46‏)‏‏.‏

والحجاب‏:‏ الساتر للمرئيّ من حائط أو ثوب‏.‏ أطلقوا اسم الحجاب على ما يمنع نفوسهم أن يأخذوا بالدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من كراهية دينه وتجافي تقلده بجامععِ أن الحجاب يحول بين الرائي والمَرْئِيّ فلا ينظر أحدهما الآخر ولا يصل إليه، ومرادهم البراءة منه‏.‏ مثل نبوّ قلوبهم عن تقبُّل الإسلام واعتقاده بحال ما هو في أكنّة، وعدمَ تأثر أسماعهم بدعوته بصَم الآذان، وعدمَ التقارب بين ما هم عليه وما هو عليه بالحجاب الممدود بينه وبينهم فلا تلاقيَ ولا ترائيَ‏.‏

وقد جمعوا بين الحالات الثلاث في التمثيل للمبالغة في أنهم لا يقبلون ما يدعوهم إليه‏.‏ واجتلابُ حرف ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِك حِجَابٌ‏}‏ لتقوية معنى الحجاب بين الطرفين وتمكن لازمه الذي هو بُعد المسافة التي بين الطرفين لأن ‏{‏مِن‏}‏ هذه زائدة لتأكيد مضمون الجملة‏.‏

وضمير ‏{‏بيننا‏}‏ عائد إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏أكثرهم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وعطف وبينك‏}‏ تأكيد لأن واو العطف مغنية عنه وأكثر استعمال ‏(‏بين‏)‏ أن يكون معطوفاً عليه مثله كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وقد جعل ابن مالك ‏(‏من‏)‏ الداخلة على ‏(‏قبل‏)‏ و‏(‏بعد‏)‏ زائدة فيكون ‏(‏بَين‏)‏ مقيساً على ‏(‏قبل‏)‏ و‏(‏بعد‏)‏ لأن الجميع ظروف‏.‏ وهذا القول المحكي عنهم في القرآن ب ‏{‏قالوا‏}‏ يحتمل أن يكون القرآن حكاه عنهم بالمعنى، فجمع القرآن بإيجازه وبلاغته ما أطالوا به الجدال وأطنبوا في اللجاج، ويحتمل أنه حكاه بلفظهم فيكون مما قاله أحد بلغائهم في مجامعهم التي جمعت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم وهذا ظاهر ما في سيرة ابن إسحاق، وزعم أنهم قالوه استهزاء وأن الله حكاه في سورة الكهف‏.‏

ويحتمل أن يكونوا تلقفوه ممّا سمعوه في القرآن من وصف قلوبهم وسمعهم وتباعدهم كقوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏46‏)‏، فإن سورة الإسراء معدودة في النزول قبل سورة فصلت‏.‏ وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً‏}‏ في سورة الإِسراء ‏(‏45‏)‏ أيضاً، فجمعوا ذلك وجادلوا به الرسول‏.‏ فيكون ما في هذه الآية من البلاغة قد اقتبسوه من آيات أخرى‏.‏ قيل‏:‏ إن قائله أبو جهل في مجمع من قريش فلذلك أسند القول إليهم جميعاً لأنهم مشائعون له‏.‏

وقد جاء في حكاية أقوالهم ما فيه تفصيل ما يقابل ما ذُكر قبله من صفات القرآن وهي ‏{‏تَنزِيلٌ مِنَ الرحمنن الرَّحِيممِ كتاب فُصِّلَتْ ءاياته قُرْءَاناً عَرَبِياً‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 2، 3‏]‏، فإن كونَه تنزيلاً من الرحمان الرحيم يستدعي تفهمه والانتفاع بما فيه، فقوبل بقولهم‏:‏ قُلُوبُنَا فِي أكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إليهِ‏}‏ وكونَهُ فُصلت آياته يستدعي تلقّيها والاستماعَ إليها فقوبل بقولهم‏:‏ ‏{‏في آذاننا وقر‏}‏، أي فلا نسمع تفصيله، وكونَه قرآناً عربياً أشد إلزاماً لهم بفهمه فقوبل ذلك بما يقطع هذه الحجة وهو ‏{‏من بيننا وبينك حجاب‏}‏ أي فلا يصل كلامه إليهم ولا يتطرق جانبهم، فهذه تفاصيل إعراضهم عن صفات القرآن‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏فاعْمَل إنَّنَا عاملون‏}‏ تفريع على تأييسهم الرسول من قبولهم دعوته وجعل قولهم هذا مقابِل وصف القرآن بأنه بَشير ونذير لظهور أنه تعين كونه نذيراً لهم بعذاب عظيم لأنهم أعرضوا فحكي ما فيه تصريحهم بأنهم لا يعبأُون بنذارته فإن كان له أذى فليؤذهم به وهذا كقول فرعون‏:‏ «ذَرَوني أَقتُل موسى ولْيَدْعُ ربه»‏.‏

وحذف مفعولا ‏(‏اعمل‏)‏ و‏{‏عاملون‏}‏ ليعُمّ كل ما يمكن عمله كل مع الآخر ما يناسبه‏.‏ والأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فاعمل‏}‏ مستعمل في التسوية كقول عنترة بن الأخرس المعْنِي‏:‏

أَطِلْ حملَ الشَّناءة لِي وبُغضي *** وعِشْ ما شئتَ فانظر من تضيرُ

وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏‏.‏

والخَبر في قولهم‏:‏ ‏{‏إنَّنَا عاملون‏}‏ مستعمل في التهديد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ‏(‏6‏)‏ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏عاملون * قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَآ إلهكم إله واحد فاستقيموا إِلَيْهِ واستغفروه وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ‏}‏‏.‏

استئناف ابتدائي هو تلقين الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجيب قولهم‏:‏ ‏{‏فاعْمَل إنَّنَا عاملون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ المفرّعَ على قولهم‏:‏ ‏{‏قُلُوبُنَا فِي أكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إليهِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ إلى آخره جوابَ المُتبرئ من أن يكون له حول وقوة ليعمل في إلجائهم إلى الإِيمان لمَّا أبوْه إذ ما هو إلا بشر مثلهم في البشرية لا حول له على تقليب القلوب الضالة، إلى الهدى، وما عليه إلا أن يبلغهم ما أوحَى الله إليه‏.‏ وهذا الخبر يفيد كناية عن تفويض الأمر في العمل بجزائهم إلى الله تعالى كأنه يقول‏:‏ وماذا أستطيع أن أعمل معكم فإني رسول من الله فحسابكم على الله‏.‏

فصيغة القصر في ‏{‏إنَّمَا أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُم‏}‏ تفيد قصراً إضافياً، أي أنَا مقصور على البشرية دون التصرف في قلوب الناس‏.‏ وبيَّن مما تميَّز به عنهم على وجه الاحتراس من أن يتلقفوا قوله‏:‏ ‏{‏إنَّمَا أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُم‏}‏ تلقفَ من حصَّل على اعتراف خصمه بنهوض حجته بما يُثبت الفارق بينه وبينهم في البشرية، وهو مضمون جملة ‏{‏يوحى إلَيَّ‏}‏ وذلك للتسجيل عليهم إبطال زعمهم المشهور المكرر أن كونه بشراً مانع من إرساله عن الله تعالى لقولهم‏:‏ ‏{‏ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏، ونحوه مما تكرر في القرآن‏.‏ ومثل هذا الاحتراس ما حكاه الله عن قول الكفار لرسلهم‏:‏ ‏{‏إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن اللَّه يمن على من يشاء من عباده‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 10، 11‏]‏‏.‏

وحرصاً على إبلاغ الإرشاد إليهم بيَّن له ما يوحى إليه بقوله‏:‏ ‏{‏إنَّمَا إلهكم إله واحد‏}‏ إعادة لِمَا أبلغهم إياه غيرَ مرة، شأنَ القائم بهدي الناس أن لا يغادر فرصة لإِبلاغهم الحق إلا انتهزها‏.‏ ونظيره ما جاء في محاورة موسى وفرعون ‏{‏قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم مؤمنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 23 28‏]‏‏.‏

و ‏{‏أنما‏}‏ مفتوحة الهمزة، وهي أخت ‏{‏إنما‏}‏ المكسورة وإنما تفتح همزتها إذا وقعت معمولة لما قبلها ولم تكن في الابتداء كما تفتح همزة ‏(‏أنَّ‏)‏ وتكسر همزة ‏(‏إن‏)‏ لأن إنَّمَا أو ‏(‏أنَّما‏)‏ مركبان من ‏(‏إنَّ‏)‏ أو ‏(‏أَنَّ‏)‏ مع ‏(‏ما‏)‏ الكافة الزائدة للدلالة على معنى ‏(‏مَا‏)‏ و‏(‏إلا‏)‏ حتى ذهب وَهَلُ بعضهم أن ‏(‏ما‏)‏ التي معها هي النافية اغتراراً بأن معنى القصر إثبات الحكم للمذكور ونفيُه عما عداه مثلَ ‏(‏ما‏)‏ و‏(‏إلاَّ‏)‏ ولا ينبغي التردد في كون أَنما المفتوحةِ الهمزة مفيدة القصرَ مثلُ أختها المكسورة الهمزة وبذلك جزم الزمخشري في تفسير سورة الأنبياء، وما رده أبو حيان عليه إنما هو مجازفة، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏

‏{‏قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل انتم مسلمون‏}‏ في سورة الأنبياء ‏(‏108‏)‏‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏أنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ‏}‏ إدماج للدعوة إلى الحق في خلال الجواب حرصاً على الهدْي‏.‏

وكذلك التفريع بقوله‏:‏ ‏{‏فاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ واسْتَغْفِرُوهُ‏}‏ فإنه إتمام لذلك الإِدماج بتفريع فائدته عليه لأن إثبات أن الله إله واحد إنما يقصد منه إفراده بالعبادة ونبذُ الشرك‏.‏ هذا هو الوجه في توجيه ارتباط ‏{‏قُلْ إنَّمَا أنَا بَشَرٌ‏}‏ بقولهم‏:‏ ‏{‏قُلُوبُنَا فِي أكِنَّةٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ الخ‏.‏

وموقع أنَّمَا إلهكم إله واحِدٌ‏}‏ أنه نائب فاعل ‏{‏يوحى إلَيَّ‏}‏، أيْ يوحَى إِليَّ معنى المصدر المنسبك من ‏{‏أنَّمَا إلهكم إله واحِدٌ‏}‏ وهو حصر صفة الله تعالى في أنه واحد، أي دون شريك‏.‏

ومماثلته لهم‏:‏ المماثلة في البشرية فتفيد تأكيدَ كونه بشراً‏.‏

والاستقامة‏:‏ كون الشيء قويماً، أي غير ذي عوج وتطلق مجازاً على كون الشيء حقاً خالصاً ليست فيه شائبة تمويه ولا باطل‏.‏ وعلى كون الشخص صادقاً في معاملته أو عهده غير خالط به شيئاً من الحيلة أو الخيانة، فيقال‏:‏ فلان رجل مستقيم، أي صادق الخُلُق، وإن أريد صدقه مع غيره يقال‏:‏ استقام له، أي استقام لأجله، أي لأجل معاملته منه‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 7‏]‏ والاستقامة هنا بهذا المعنى، وإنما عُدّي بحرف ‏(‏إلى‏)‏ لأنها كثيراً ما تعاقب اللام، يقال‏:‏ ذهبتُ له وذهبت إليه، والأحسن أن إيثار ‏(‏إلى‏)‏ هنا لتضمين ‏(‏استقيموا‏)‏ معنى‏:‏ توجهوا، لأن التوحيد توجه، أي صرف الوجه إلى الله دون غيره، كما حكَى عن إبراهيم‏:‏ ‏{‏إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 79‏]‏، أو ضمّن ‏(‏استقيموا‏)‏ معنى‏:‏ أنيبوا، أي توبوا من الشرك كما دل عليه عطف ‏{‏واستغفروه‏.‏

والاستغفار‏:‏ طلب العفو عما فرط من ذنب أو عصيان وهو مشتق من الغَفْر وهو الستر‏.‏

والمعنى‏:‏ فأخلصوا إلى الله في عبادته ولا تشركوا به غيره واسألوا منه الصفح عما فرط منكم من الشرك والعناد‏.‏

واستغفروه وَوَيْلٌ‏}‏ ‏{‏لِّلْمُشْرِكِينَ * الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون‏}‏

وعيد للمشركين بسوء الحال والشقاء في الآخرة يجوز أن يكون من جملة القول الذي أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوله فهو معطوف على جملة ‏{‏إنَمَّا أنَا بَشَرٌ‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون كلاماً معترضاً من جانب الله تعالى فتكون الواو اعتراضية بين جملة ‏{‏قُلْ إنَّمَا أنَا بَشَرٌ‏}‏ وجملة ‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏ أي أجبهم بقولك‏:‏ أنا بشر مثلك يوحى إليّ ونحن أعتدنا لهم الويل والشقاء إن لم يقبلوا ما تدعوهم إليه، فيكون هذا إخباراً من الله تعالى‏.‏

وذكر المشركين إظهار في مقام الإِضمار ويستفاد تعليق الوعيد على استمرارهم على الكفر من الإِخبار عن الويل بكونه ثابتاً للمشركين والموصوفين بالذين لا يؤتون الزكاة وبأنهم كافرون بالبعث لأن تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعليَّة ما منه الاشتقاق، ولأن الموصول يؤذن بالإِيماء إلى وجه بناء الخبر‏.‏ فأما كون الشرك وإنكارِ البعث موجِبَيْن للويل فظاهر، وأما كون عدم إيتاء الزكاة موجباً للويل فذلك لأنه حَمَّل عليهم ما قارن الإشراك وإنكار البعث من عدم الانتفاع بالأعمال التي جاء بها الإسلام، فذِكرُ ذلك هنا لتشويه كفرهم وتفظيع شركهم وكفرانهم بالبعث بأنهما يدعوانهم إلى منع الزكاة، أي إلى القسوة على الفقراء الضعفاء وإلى الشحّ بالمال وكفى بذلك تشويهاً في حكم الأخلاق وحكم العُرف فيهم لأنهم يتعيرون باللؤم، ولكنهم يبذلون المالَ في غير وجهه ويحرمون منه مستحقيه‏.‏

ويعلم من هذا أن مانع الزكاة من المسلمين له حظ من الويل الذي استحقه المشركون لمنعهم الزكاة في ضمن شركهم، ولذلك رأى أبو بكر قتال مانعي الزكاة ممن لم يرتدوا عن الإسلام ومنَعوا الزكاة مع المرتدين، ووافقه جميع أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم ف ‏{‏الزكاة‏}‏ في الآية هي الصدقة لوقوعها مفعول ‏{‏يؤتون،‏}‏ ولم تكن يومئذٍ زكاة مفروضة في الإسلام غير الصدقة دون تعيين نُصُببٍ ولا أصناففِ الأرزاق المزكّاةِ، وكانت الصدقة مفروضة على الجملة، ولبعض الصدقة ميقات وهي الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏وهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ كافرون‏}‏ إما حال من ضمير ‏{‏يؤتون‏}‏ وإما معطوفة على الصلة‏.‏ وضمير ‏{‏هُمْ كافرون‏}‏ ضمير فصل لا يفيد هنا إلا توكيد الحكم ويشبه أن يكون هنا توكيداً لفظياً لا ضميرَ فصل ومثله قوله‏:‏ ‏{‏وهم بالآخرة هم كافرون‏}‏ في سورة يوسف ‏(‏37‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إنني أنا اللَّه‏}‏ في سورة طه ‏(‏14‏)‏‏.‏

وتقديم ‏{‏بِالآخِرَة‏}‏ على متعلقه وهو ‏{‏كافرون‏}‏ لإِفادة الاهتمام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

استئناف بياني نشأ عن الوعيد الذي تُوُعّد به المشركون بعد أن أُمروا بالاستقامة إلى الله واستغفارِه عما فرط منهم، كأنَّ سائلاً يقول‏:‏ فإن اتعظوا وارتدعوا فماذا يكون جزاؤهم، فأفيد ذلك وهو أنهم حينئذٍ يكونون من زمرة ‏{‏الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون‏}‏، وفي هذا تنويه بشأن المؤمنين‏.‏

وتقديم ‏{‏لهم‏}‏ للاهتمام بهم‏.‏

والأجر‏:‏ الجزاء النافع، عن العمل الصالح، أو هو ما يُعطُوْنه من نعيم الجنة‏.‏

والممنون‏:‏ مفعول من المَنّ، وهو ذِكر النعمة للمنعَم عليه بها، والتقدير غير ممنون به عليهم، وذلك كناية عن كونهم أُعطُوه شكراً لهم على ما أسلفوه من عمل صالح فإن الله غفور شكور، يعني‏:‏ أن الإِنعام عليهم في الجنة ترافقه الكرامة والثناء فلا يُحسون بخجل العطاء، وهو من قبيل قوله‏:‏ ‏{‏لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 264‏]‏، فأجرهم بمنزلة الشيء المملوك لهم الذي لم يعطه إياهم أحد وذلك تفضل من الله، وقريب منه قول لبيد‏:‏

غُضْفٌ كواسبُ لا يُمَنُّ طعامها ***

أي تأخذ طعامها بأنفسها فلا منّة لأحد عليها‏.‏